‎ الفصل بين الإحساس و الإدراك الشعبة أدب وفلسفة

 الفصل بين الإحساس و الإدراك الشعبة  أدب وفلسفة

السؤال:هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك في التعرف على العالم الخارجي؟

الأسئلة المشابهة :
- هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك؟
- هل يمكن التمييز بين الإحساس والإدراك؟
- هل التمايز القائم بين الإحساس والإدراك يجعلهما يقفان على طرفي نقيض؟
- هل الطابع الأولي للإحساس يعني خلوه من أي نشاط ذهني؟ - ما طبيعة العلاقة بين الإحساس والإدراك؟
- هل هناك علاقة بين الإحساس والإدراك؟

المقدمة :
معروف عن الإنسان أنه كائن حيوي يمتلك مجموعة من الوظائف والقدرات التي تمكنه من الحفاظ على بقائه و إستمراره وتعينه على التكيف مع محيطه ومن بين هذه القدرات نجد قدرتي الإحساس والإدراك فالأولى عملية فيزيولوجية بسيطة ناتجة عن تأثر إحدى حواس الإنسان بالمنبهات الخارجية بهدف التكيف مع العالم الخارجي بينما الثانية هي عملية عقلية عليا معقدة يتم فيها تفسير وتأويل وترجمة المؤثرات الحسية التي تنقلها الحواس إلى المراكز العصبية وبهذا يتعرف الإنسان على ما يحيط به . وتعتبر العلاقة بين الإحساس والإدراك من المشكلات الفلسفية التي تناولتها فلسفة المعرفة لذلك حظيت بإهتمام العديد من المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس نتج بشأنها إختلاف في المواقف وتباين في التصورات حيال إمكانية الفصل بينهما أو عدمه إذ يعتقد البعض منهم أن الإنسان يحس ثم يدرك بينما يذهب آخرون إلى القول بأن الإحساس والإدراك متداخلان في معرفة العالم الخارجي وفي ظل هذا الجدل القائم يثار التساؤل التالي : هل التعرف على العالم الخارجي يكون بالإحساس أم بالإدراك أم بهما معا ؟ وبعبارة أخرى ما طبيعة العلاقة القائمة بين الإحساس والإدراك هل هي علاقة إنفصال أم علاقة إتصال ؟


العرض ( محاولة حل المشكلة ) :


1 - عرض الأطروحة : يرى الفلاسفة الكلاسيكيون ( العقليون والحسيون ) أنه من الضروري الفصل والتمييز بين الإحساس والإدراك في التعرف على العالم الخارجي إذ يرى العقليون وفي مقدمتهم رونيه ديكارت ورو ألان وجورج باركلي و إيمانويل كانط بأن المعرفة الإدراكية هي حكم ذهني ناتجة عن نشاط العقل فيما يرى الحسيون وفي مقدمتهم جون لوك ودافيد هيوم وجون ستوارت ميل بأن المعرفة الإدراكية مصدرها الإحساس والتجربة الخارجية
ويستند الفلاسفة العقليون في فصلهم بين الإحساس والإدراك على التمييز بينهما من حيث طبيعة وقيمة المعرفة المتأتية من كليهما فمن حيث الطبيعة إن الإحساس عملية فيزيولوجية أولية بسيطة مرتبطة بالبدن وهو عالم ثابت مشترك بين الإنسان والحيوان ، أما الإدراك فهو مرتبط بالعقل أي أنه عملية عقلية عليا معقدة تساهم فيه عمليات ووظائف عقلية عليا من ذاكرة وذكاء وتخيل وتأويل للحكم ... وهو متطور تبعا لتطور هذه القدرات الذهنية . أما من حيث القيمة للإحساس أدنى قيمة معرفية من الإدراك بمعنى أنه معرفة أولية لم يبلغ بعد درجة المعرفة فهو يحدث صورا ذهنية لا تتضمن أي معنى بينما الإدراك يؤسس على المعرفة الحقة القائمة على الوضوح واليقين والتي تتم في إطار الزمان والمكان يقول ديكارت في هذا : " أنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني "
فالإحساس في نظرهم لا يمد الإنسان بمعرفة كاملة، فهو لا ينطوي على أي يقين ، ولعل هذا ما عناه الفيلسوف اليوناني سقراط بقوله: "إن الحواس تخدعنا خداعا كبيرا"، وهو الطرح ذاته الذي تبناه ودافع عنه تلميذه أفلاطون الذي رأى في المعرفة الحسية أنها معرفة لا تثبت على حال وهي متغيرة، لا ترتقي إلى مصاف المعرفة العقلية ذات الحقائق الثابتة والأزلية، وهذا الذي جعل أفلاطون يميز بين عالمين أساسيين وهما عالم المثل والمعقولات الثابتة وعالم المحسوسات والمتغيرات، وفي العصر الحديث يرى رائد الفلسفة الحديثة ديكارت أن الحواس تكون في كثير من الأحيان مطية لخداعنا، وقد بين كذلك أن الإحساس لا يمدنا بمعرفة كاملة ويقينية، وأن العقل هو أعدل قسمة بين الناس بما ركب فيه من أفكار فطرية هو أساس كل معرفة ، وفي هذا الصدد يقول ديكارت: " لقد رأيت الحواس تخدعني ، وليس من الحكمة أن نطمئن كل الاطمئنان إلى من يخدعنا ولو لمرة واحدة ولقد أشار ديكارت إلى هذا بتقديمه لمثال عن أبراج القلعة التي كانت تلوح له مستديرة عن بعد أصبحت تلوح له مربعة عن قرب ويقول في هذا الصدد : " ولكن إختبارات كثيرة فوضت شيئا فشيئا كل ما لدي من ثقة بالحواس فقد لاحظت مرات عديدة أن الأبراج التي كانت تلوح لي مستديرة عن بعد تلوح لي مربعة عن قرب "
وفي هذا الإتجاه يرى ألان بأن المشاهدة الحسية لا تقدم معرفة كاملة وهذا ما بينه من خلال مثال المكعب الذي لا نرى منه إلا ثلاثة أوجه وتسعة أضلاع فقط بالعين المجردة بينما حقيقته هي ستة أوجه وإثني عشر ضلعا لأننا نعلم عن طريق الخبرة السابقة أننا لو أدرنا المكعب فسنرى الأوجه والأضلاع التي لا نراها لذلك فإدراك المكعب لا يخضع لمعطيات الحواس بل لنشاط الذهن وأحكامه ولولا هذا الحكم العقلي لا يمكننا الوصول إلى معرفة المكعب من مجرد الإحساس يقول ألان في هذا الصدد: " إن الشيئ يعقل (يدرك) ولا يحس "
ويؤكد باركلي أن الأكمة ( أي الأعمى بالولادة ) الذي إستعاد بصره بعد عملية جراحية لا يستطيع أن يميز بين الموضوعات البعيدة والقريبة ويقول في هذا الصدد : " عندما يعاد البصر إلى الأعمى بالولادة فلن تكون لديه أية فكرة عن المسافات في البداية فالشمس والنجوم والأشياء البعيدة أو القريبة تبدو و كأنها ملتصقة بعينيه ( لكنها موجودة في فكره ) لأن المحاكمة العقلية هي التي تبين لنا مواقع الأشياء المدركة بالبصر وهي ناتجة عن الخبرة والتجربة " و بعد 20 سنة أكدت أعمال الجراح الإنجليزي شزلندن هذا الرأي وحالة الأكمة تماثل حالة الصبي في مرحلة اللاتمايز فلا يميز بين يديه والعالم الخارجي ويمد يديه لتناول الأشياء البعيدة لأنه يخطئ أيضا في تقدير المسافات لإنعدام الخبرة السابقة لديه يقول ألان في هذا الصدد : " إن الصياد يدرك جيدا إذا عرف كيف يتعرف على كلابه التي يسمعها إنه يجيد الإدراك إذا عرف كيف يبلغ الحمامة التي تطير بينما الطفل لا يحسن الإدراك عندما يريد بلوغ القمر بيديه أو بلوغ غبر ذلك "
أما كانط فيؤكد أن العين المجردة لا تنقل نتيجة الإحساس إلا بعدين من الأبعاد وهما الطول والعرض عند رؤية صورة أو منظر مثلا ورغم ذلك ندرك بعدا ثالثا وهو العمق إدراكا عقليا فالعمق كبعد ليس معطى حسي بل حكم عقلي وهنا يقول ألان " الرسامون يعرفون كيف يهيئون شروط إدراك المناظر"
هذا وتؤكد الملاحظة البسيطة والتجربة الخاصة أننا نحكم على الأشياء على حقيقتها وليس حسب ما تنقله لنا الحواس فندرك مثلا العصا في بركة ماء مستقيمة رغم أن الإحساس البصري ينقلها لنا منكسرة ويبدي لنا الإحساس الشمس وكأنها قرص صغير ونحكم عليها بالرغم من ذلك أنها أكبر من الأرض ولهذا يقول ديكارت في هذا الصدد : " كل ما تلقيته حتى الآن على أنه أصدق الأشياء و أوثقها قد تعلمته عن طريق الحواس غير أنني إختبرت أحيانا هذه الحواس فوجدتها خادعة و أنه من الحذر أن لا نطمئن أبدا إلى من خدعونا ولو مرة "
بينما يميز الفلاسفة الحسيون بين الإحساس والإدراك بالنظر إلى درجة وشدة التعقيد فيهما فالعقل عندهم ملكة تابعة للإحساس عاجزة عن إنشاء أفكار ذاتية خاصة بل إنه ( العقل ) ليس أكثر من مستودع للخبرات والصور الحسية ومنه فكل المدركات العقلية ما هي في الحقيقة سوى خبرات حسية تحصلنا عليها شيئا فشيئا نتيجة إنطباع صور المحسوسات ، إذ يؤكدون أن الإحساس هو مصدر جميع معارفنا فالمعرفة الإدراكية في تصورهم هي نتيجة تآلف جميع الإحساسات ومعنى ذلك أن المعرفة المتحصلة تنتج عن تآلف بين الإحساس والإحساس المركب ( والذي يكون شعورا أو إنطباعا أو إدراكا حسيا ) فالمعرفة الإنسانية متولدة من التجربة والخبرة فالعقل البشري صفحة بيضاء و التجربة هي التي تخط عليه ما تشاء يقول لوك في هذا : " لنفرض أن العقل صفحة بيضاء خالية من جميع الصفات فكيف يمكن أن يكتسب للإنسان ذلك ؟ إني أجيب بإختصار من التجربة " وعليه فلا شيئ في الذهن إلا سبق وجوده في الحس يقول لوك : " إن ما في الأذهان إنعكاس لما في الأعيان " فكل معرفة أصلها حسي وبالتالي لا وجود لمبادئ فطرية و أفكار قبلية في العقل لأن كل المعارف بعدية تكتسب بالتجربة الحسية يقول لوك : " لو كان الناس يولدون وفي عقولهم أفكار فطرية لتساووا في المعرفة " كما يعتبر الإحساس أساس كل معرفة وهذا ما يعكسه قوله الشهير : " لو سألت الإنسان متى بدأ يعرف لأجابك متى بدأ يحس " إذ أن كل المكتسبات المعرفية مصدرها التجربة والخبرة لهذا فمن فقد حسا فقد معرفة كما قالها أرسطو قديما وهيوم حديثا فالحواس هي وسيلة إتصال الفرد بالعالم الخارجي أما العقل وما ينطوي عليه فهو إنعكاس للمعطيات التجريدية يقول لوك في هذا : " الحواس والمدركات هما النافذتان اللتان ينفذ منهما الضوء إلى الغرفة المظلمة ( العقل ) " ومعنى ذلك أن الخبرة الحسية هي مصدر كل معارفنا إلى العالم الخارجي وبالتالي فكل المعارف عند الحسيين بعدية مكتسبة بالتجربة الحسية وعلى هذا الأساس يكون الإحساس هو مصدر المعرفة والمتحكم في المدركات والموجه لها ومن ثم التمييز بين الإحساس والإدراك وجعل الإحساس أعلى مرتبة من الإدراك .


النقد :
إن الإختلاف بين الإحساس والإدراك أمر صحيح لا يمكن إنكاره لكنه لا يستلزم الفصل كما ذهب إلى ذلك كل من العقليين والحسيين فالإختلاف لا يعني ضرورة الفصل بل قد يكون المختلفان متكاملان ومتواصلان فالإدراك العقلي يعتمد في الأساس على ما تنقله الحواس لأن الإحساس هو الجسر الذي يعبره العقل أثناء إدراكه للموضوعات وهذا يعني أن للإحساس وظيفة يؤديها في عملية الإدراك وبدونه يصبح الإدراك فعلا ذهنيا مستحيلا وهذا ما أغفله العقليين ، أما الحسيين فقد بالغوا في جعل الإحساس الأساس الوحيد لكل معرفة إنسانية فالإدراك ليس مجرد تجميع للأحاسيس ولا يمكن إغفال أن المعرفة الحسية في مجملها ساذجة وتوقع في الخداع والخطأ


2 - عرض نقيض الأطروحة :
وعلى النقيض من الموقف الأول يرى أنصار علم النفس الحديث الممثل في الجشطالتيين والظواهريين بأنه من غير الممكن الفصل بين الإحساس والإدراك فمعرفة الإنسان للعلم الخارجي هي عملية يرتبط فيها الإحساس بالإدراك فالفرد يحس ويدرك في آن واحد دون الفصل بين ما يسمى عملية حسية وما يسمى عملية عقلية .
حيث يرى أنصار المدرسة الجشطالتية وفي مقدمتهم كوفكا وكوهلر وفيرتهيمر بأن المعرفة في الإدراك تابعة لإنتظام الأشياء في المكان فالأشياء التي ندركها تنتظم عناصرها في صورة كلية وتفرض نفسها على الذات فتحس بها وتدركها في آن واحد وفي نظرهم لا وجود لإحساس خالص ولا إدراك مجرد فالإحساس والإدراك يكون دفعة واحدة وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي بول غيوم بقوله : " ليس الإدراك تجميعا للإحساسات بل يتم دفعة واحدة " وبذلك فإن الإدراك ليس إدراكا لمجموعة من الإحساسات المنظمة بواسطة العقل بل هو إدراك لمجموعة من العناصر المنظمة تنظيما موضوعيا لأن العالم الذي ندركه ليس عالما من الفوضى بل هو عالم منظم بفعل قوانين موضوعية تسمى بقوانين الإنتظام وهي التي تجعل الشخص يدرك الموضوع كصيغة أو شكل وإنتظام هذه البنية أو تفككها هو الذي يحدد نوع الإدراك بل أن تبدلها مع تبدل الظرف الخارجي يؤدي إلى تبدل الموقف منها وأهم هذه القوانين نجد قانون الشكل والأرضية فلكل شكل أو صورة في العالم الخارجي أرضية أو خلفية فكلما كان الشكل مخالفا للأرضية كان الإدراك أسهل ومثال ذلك إدراك نقطة سوداء في خلفية بيضاء يكون أسهل بكثير من إدراك نقطة سوداء في خلفية سوداء وهناك قانون التشابه فالموضوعات والأشياء المتشابهة في الشكل أو الحجم أو اللون تكون سهلة الإدراك لأنها تشكل في مجموعها كُلا موحدا مثال ذلك أنه يسهل علينا إدراك مجموعة من الجنود أو رجال الشرطة لتشابه الزي أكثر من مجموعة من الرجال في السوق أو الشارع وهناك قانون التقارب فالموضوعات والأشياء القريبة في الزمان والمكان تميل إلى التجمع بأذهاننا وتدرك بسهولة في وحدة أو في شكل واحد فمثلا النقاط المتقاربة من بعضها البعض تدرك كخط مستقيم وهناك قانون الإغلاق ونجد قانون البروز فكلما كانت الموضوعات والأشياء بارزة سهل إدراكها على خلاف الموضوعات غير البارزة التي يصعب إدراكها مثل إدراك سفينة على سطح البحر وهناك قانون الشمولية فالشكل المركب الذي يتألف من أشياء أخرى يدرك كصيغة واحدة أما أجزاءه فلا تدرك إلا بعد التمعن فمثلا النجمة السداسية عندما نمعن النظر فيها ماهي في حقيقة الأمر إلا مثلثين متقاطعين وهناك قانون الوضوح والبساطة فكلما كانت الموضوعات و الأشياء بسيطة وواضحة يسهل إدراكها أما إذا كانت هذه الموضوعات والأشياء معقدة وغير واضحة صعب إدراكها ونجد أيضا قانون المصير المشترك مفاده أن الأشياء التي تقع في العالم الخارجي مرتبطة بشروط محددة إذا تمكن الإنسان من معرفتها إستطاع التنبؤ بها فكل شيئ يؤول إلى نتيجة معينة فمثلا ندرك أن الطفل إذا ما وضع يده على النار فسوف يحترق لذلك تجدنا نصرفه عنها متى رأيناه يتجه نحوها فهذه القوانين هي التي تنظم الأشياء في بنية شاملة تجعلنا ندركها من الوهلة الأولى في صورة كلية فإذا شاهدنا الأمطار تسقط فنحن في هذه المشاهدة لا نجمع بذهننا الحركات الجزئية للقطرات الصغيرة التي تتألف منها الحركة الكلية بل أن الحركة الكلية هي التي تفرض نفسها علينا ، كذلك الشأن بالنسبة لسماع مقطوعة موسيقية فإننا ندركها كنغمة أساسية متماسكة وليس أن تسمع الآلات الوترية أولا ثم تعقبها الآلات النفخية ثانيا ثم تليها الآلات الإيقاعية ثالثا ... إلخ بل أنها كلها متداخلة في وحدة متميزة وعليه فالشخص يدرك الصيغة الكلية للشيء المدرك وبعد ذلك يأتي دور التفاصيل الجزئية التي لا بد لها أن تتكامل في هذا الكل والمقصود بالكل ليس مجموع العناصر التي يتألف منها بل خصائصه العامة
أما المدرسة الظواهرية ( الفينومينولوجية ) بزعامة إدموند هوسرل و موريس ميرلوبونتي نجدها هي الأخرى ترفض الفصل التعسفي بين الإحساس والإدراك. وردوا عملية الإدراك إلى تفاعل الشعور والموضوع المدرك معا ، لأن كل شعور على حد تعبير ميرلوبونتي هو شعور بموضوع فيقول : " إن الكيفية لا يقع الإحساس بها مباشرة أبدا فكل شعور إنما هو شعور بشيء ما " ، كما أن هذه النظرية تنتقد التفسير العقلي الذي يعتبر الإدراك حكما عقليا وتؤكد أن الإدراك حالة نفسية تابعة للشعور وتتغير بتغير أحواله، إذ أن هوسرل يعتبر الإدراك متغيرا فيقول: " أرى بلا انقطاع هذه الطاولة سوف اخرج وأغير مكاني ويبقى عندي بلا انقطاع شعور بالوجود الحسي لطاولة واحدة هي في ذاتها لم تتغير وأن إدراكي لها ما فتئ يتنوع إنه مجموعة من الإدراكات المتغيرة ". وهذا ما دفع الظواهريين إلى الاعتقاد أن " الثابت هو الأشياء نفسها والمتغير هو الإدراك ". لهذا يجب الاكتفاء بوصف ما يظهر دون الاعتماد على فروض ونظريات ودون الفصل بين الإحساس والإدراك ، حيث لا وجود لإحساس خالص غير مسبوق بشعور ذهني، كما لا يوجد إدراك ذهني غير مرتبط بالحواس ، وهذا ما يعزز فرضية استحالة الفصل بينهما


النقد :
إن النظريات الحديثة على الرغم من تنبهها للعلاقة الوطيدة بين الإحساس والإدراك إلا أنها بالغت في تفسير الإدراك من حيث أنها تغلب جانب على آخر فما يؤاخذ عليه الجشطالتيون هو أنهم مالوا إلى التركيز على الشروط الخارجية والعوامل الموضوعية الخارجية لعملية الإدراك وهو ما شكل إقصاء للعقل وقدراته الذاتية فجعلت دوره شكلي في العملية الإدراكية رغم أن الذهن ليس إطارا سلبيا يستقبل فقط بل هو فعال يبني العملية المعرفية ، أما الظواهريون فقد غلبوا كفة الشعور الذاتي للإدراك على العالم الخارجي وعوامله الموضوعية وهو ما يؤدي إلى العجز عن الحكم الموضوعي لإختلاف التجارب بين الذوات المدركة أي أنهم جعلوا العالم الخارجي تحت سيطرة الشعور ويتغير بتغيرهم وفي هذا إنكار للخصائص العالم الخارجي .


التركيب :
إن عمليتي الإحساس والإدراك في حقيقة الأمر وجهان مختلفان لعملية نفسية واحدة لذلك لا يجب الفصل بينهما مثلما فعل العقليون والحسيون ولا تغليب عامل على آخر مثلما فعل الجشطالت أي أنه لا غنى للمعرفة في الإتصال بالعالم الخارجي عن العقل والحواس معا .


الرأي الشخصي :
وكمساهمة مني في حل المشكلة أقول أن الفصل بين الإحساس والإدراك غير ممكن من الناحية الواقعية لأن المعرفة تبدأ من التجربة الحسية المتمثلة فيما تنقله لنا الحواس من إنطباعات لكن هذه المعرفة لا يكون لها معنى إلا إذا تدخل العقل ورتبها ونظمها وحللها من خلال وظيفة الإدراك حيث يقول كانط في هذا الصدد : " الإنطباعات الحسية بدون مفاهيم عقلية عمياء والمفاهيم العقلية بدون إنطباعات حسية جوفاء " .


الخاتمة :
بناءا على كل ما سبق نستنتج أن محاولة الفصل بين الإحساس والإدراك عملية لا جدوى منها من الناحية الواقعية بحكم أنهما متكاملان وهذا ما أثبتته الدراسات النفسية والعلمية ، كما أنه لا يجب تغليب عامل على آخر لأن هذا الفصل أو التغليب ناتج فقط عن التفسيرات المذهبية فالإدراك يتولد من وجود ذات تدرك ( العقل ) وموضوع يدرك (الأشياء الحسية) وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي توماس ريد بقوله : " الإدراك هو الإحساس المصحوب بالإنتباه " .


لا تتردد في ترك تعليق تعبر به عن استفساراتك و ملاحظاتك .



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-